المليونير المتشرد


فيكاس سواراب، رضوى فرغلي، المليونير المتشرد، الهند، أطفال الشوارع، فيلم هندي، بوليوود
"جمال ملك على بُعد سؤال واحد ليربح عشرين مليون روبية، كيف؟

أ. قام بالغش        ب. محظوظ       
 ج. عبقري           د. كان مُقدر له!"

 بهذا السؤال المثير للانتباه والفضول معًا يضعنا الفيلم المرشح لعشر جوائز أوسكار "المليونير المتشرد" Slumdog Millionaire مباشرة أمام مرآة مكبرة تعكس السلوك الإنساني بكل تناقضاته واحتمالاته الملغزة، وفي مشاهد متبادلة وسريعة ومكثفة لا تترك مجالا للثرثرة أو الازدحام البصري أو التطويل الفارغ، يأخذ الفيلم خطين متوازيين: خط الحاضر مجسدا في مشاركة البطل "جمال ملك" في البرنامج الشهير "من سيربح المليون" .. وخط الماضي ـ القريب والبعيد ـ الذي يستحضر من خلاله طفولة قاسية بظروفها وشخوصها وأحداثها. طفولة مشردة محفورة في ذاكرة صاحبها والتي تنزف الإجابات على أسئلة صعبة في سلاسة محيرة، وكأن تفاصيل حياتنا التي نتورط فيها ومعها تُجلي الوعي وتجعله يقظا، مجيبا، مستغنيا أحيانا عن العبقرية أو الثقافة.

يحتفي الفيلم بالهند وطنا ورموزا وشعرا وموسيقى وأغاني وآثار وفقر وأطفال شوارع أيضاً عبر تفاصيل صغيرة وبسيطة لكنها عميقة الأثر تترك المشاهد مشدوها أمام فيلم يحترم حواس الإنسان رغم ما به من هنات، فيظهر أميتاب باتشان في لقطة عابرة مثل أسطورة تهبط من السماء، وغاندي الذي يجسد نضالا ورمزية تاريخية بصورته الخالدة على العملة الوطنية، وسورداس في سؤال تحدٍ في البرنامج، وتاج محل بوصفه الجنة على لسان طفل يجتر الألم كل صباح. هذا الاحتفاء الذي لا يجرحه سوى نقد بسيط للهند أو بمعنى أصح للسلطة بكل أشكالها أكثر منه للوطن.

 يضفر الفيلم من الجوع والتشرد وعيا نوعيا نتج عن معاناة وليس عن رفاهية الثقافة. إن "المليونير المتشرد" لا يناقش فقط قصة طفل شارع مشرد، يتعرض وزملاءه إلى كافة أشكال الاستغلال والإهانة والضرب ويمارسون التسول وجمع القمامة والسرقة والدعارة، إنما يعرض بعمق أيضا لطبيعة العلاقات الإنسانية المتشابكة والصراع الحتمي مع الآخر، وقيمة الحب النقي وقدرته على إنقاذ الإنسان من اللاجدوى واللامعنى والقفز به إلى الشاطئ الآخر.

 ناقش الفيلم قضية الأطفال المشردين بواقعية شديدة لا تُشعر المُشاهد باغتراب عن طبيعة هؤلاء الأطفال بداية من مظهرهم الخارجي وملامحهم وتعبيراتهم اللفظية وحركاتهم الجسدية المميزة وحتى نوعية نكتهم ومقالبهم وسخريتهم من بعضهم البعض ومن السلطة بكافة أشكالها، العسكرية والدينية، والتي تجلت في اشتباكهم مع الشرطة ومناورتهم لها في أكثر من مشهد، أو اتهام زعيم العصابة "مامان" بأنه قس لعين، والذي يعكس وعيا مشوها لديهم ربما نتج من الطبيعة الطائفية في البلد.. هذه التفاصيل وغيرها لا يخفى صدقها على كل من اقترب أو تعامل مع هذه الفئة من الأطفال وأسرهم وبيئتهم. إضافة إلى المشاهد الخارجية التي تجاوزت فيها الكاميرا حدود المألوف فصورت الأعمال التي يقومون بها أو يضطرون إليه بحرفية شديدة، فنرى مشهد جمع القمامة أو التسول أو أعمالهم الهامشية وكأننا بالفعل نعيشه عن قرب، وساعد على ذلك مهارة الأطفال في نقل الإحساس بالتمرد أو التقزز أو الاضطهاد والظلم وصنع معايير مختلفة عن المجتمع تمكنهم من قبولهم لبعضهم البعض داخل منظومة متماسكة، كأن لا يجد جمال مثلا كطفل شارع أن يتقبل حبيبته لاتيكا وهي المومس، كل ذلك جاء بتلقائية واضحة وإحساس دقيق وعميق بالدور.     

بكتابة رشيقة وإخراج محترف وتمثيل واعٍ بدأ الفيلم من لحظة القبض على "جمال" بتهمة الغش في الإجابة على أسئلة البرنامج، تلك التهمة التي لا تمثل محور القصة فقط، إنما تلخص بدقة صراعا نفسيا عميقا بين مقدم البرنامج وذاته، ومن ثم بينه وبين البطل.. تنتقل الكاميرا بذكاء لتنقل لنا ملامح معبرة وصوت مستفز غالبا ومتوتر أحيانا وحركات جسدية تعكس إحساسا عميقا بالدور يتقنه الممثل "أنيل كابور" شخصية مقدم البرنامج الذي تجاوز الفقر وصعد إلى طبقة الأثرياء، لكنه لم يتجاوز إحساسه بالدونية وعدم الثقة بالنفس التي تجعله يجلس أمام البطل خائفا متوجسا قلقا كأنه أمام مرآة ذاته المشوهة، يجتر تجربته المريرة مع الفقر دون كلام، ويحاول بكل وسيلة عرقلة "جمال" عن الفوز وصب كل عدوانه عليه بالسخرية والتهكم وإحباطه وإغوائه بالإجابة الخطأ، وكأنه ينتقم من صورته القديمة ويحاول محو كل ما يذكره بها، وأن يحتفظ وحده بحق الصعود والارتقاء الذي مكنه من استغلال نفوذه في الإبلاغ عن "جمال" لينتقل بنا الفيلم إلى قضية أخرى مهمة وهي الزواج الكاثوليكي بين السلطة والمال وتوظيف القانون في دول العالم الثالث للصالح الشخصي، وعدم مراعاة آدمية البشر، وإن حدث فيكون ذلك في اللحظات الأخيرة ومن خلال حل فردي مثلما حدث في تبدل موقف الضابط المحقق مع البطل في قسم الشرطة!

 لم يكن هذا هو الصراع الوحيد مع الآخر في حياة البطل، فهناك صراع أعمق مع شقيقه "سليم" الشخصية البراغماتية المركبة منذ طفولتها، وكان "سليم" الطفل أقدر على تجسيد الصراع من "سليم" الشاب، فما بين محاولته سلب أخيه كل ما يحب بدءا من صورة الممثل المفتون به "أميتاب باتشان" إلى سلب حبيبته "لاتيكا".. وبين حب فطري خفي يجعله ينقذ أخيه من الموت أكثر من مرة، تتأرجح شخصية "سليم" الذي تحول إلى مجرم محترف في عالم معقد. وتأتي المشاهد حساسة جدا لنقل هذه المشاعر المتناقضة، فنرى سليم الصغير يسرق من أخيه جمال صورة أميتاب باتشان التي اضطر جمال الطفل في مشهد أراه عبقريا ومتفردا أن يسقط في بالوعة الصرف الصحي حتى يحصل على توقيع نجمه المفضل عليها وسط عجز الكثيرين،ومنهم سليم، عن الوصول إليه. ونرى ابتسامة خبيثة وشامتة وزهو طفولي بالانتصار على وجه سليم حين سلب أخيه الصورة وباعها. وفي مشهد آخر يأتي سليم الشاب سكرانا ليسلب أخيه جمال شيئا آخر عزيز عليه وهو حبيبته لاتيكا، حين يقرر سليم معاشرتها جنسيا أمام أخيه بعد تهديده بالسلاح. كل هذا الصراع اللاشعوري مع الأخ لا يمنع سليم من إنقاذ جمال من الموت أكثر مرة، ليجسد لنا الفيلم كتابة وإخراجا وتصويرا وتمثيلا تلك العلاقة المعقدة بين الأخوين.

رغم أن حضور الأنثى في الفيلم كان شاحبا من حيث مساحة الدور، إلا أنه حضور عميق من حيث التأثير، خصوصا في حياة البطل. في البداية تموت الأم في حادثة مؤثرة أمام عيني طفليها، تدين الاحتقان الطائفي وجرائم الإرهاب، بعدها ينتقل الطفلان إلى مرحلة أخرى، هي الانضمام إلى فئة أطفال الشوارع، في رحلة مجهولة بعدما انهار آخر صمام أمان لهما. هنا يعالج الفيلم التحولات التي يمر بها طفل الشارع بمنطقية وعمق دون تزييف أو إدعاء أو اختلاق مواقف، ساعده على ذلك التصوير المتقن في الأماكن العشوائية الحقيقية بمشاهد سريعة تترك أثرها في نفس المتفرج.

الحضور الآخر للأنثى كان من خلال الحبيبة "لاتيكا" التي يحملها البطل في قلبه مثل وشم امتزج بدمه، فكانت الدافع الجوهري وراء اشتراكه في البرنامج وبالتالي تغيير مصيره كلية، وكأنه انتصار أبدي للحب والمشاعر النبيلة حين تغذي داخلنا حب الحياة وتصالحنا مع القدر.

يخلق الفيلم لوحة تشكيلة مليئة بالمتعة بصرية، وإثارة للمشاعر والعواطف، والثقافة الجغرافية، والتاريخية، ببساطة فنان واثق من قدراته، إلا أن هذه اللوحة لم تخلو من بعض الألوان الصاخبة في مناطق معينة، مثل عدم منطقية الطريقة التي حصل بها "جمال" على إجابات بعض الأسئلة مثل "صورة بينجامين فرانكلين"، أو حادثة وقوعه وأخيه "سليم" من قطار يسير بسرعة عالية دون إصابتهما بأي خدوش أو كدمات.. هنا استحضرت أنه "فيلم هندي". كما أن الصراع اللاشعوري بين مقدم البرنامج والبطل "جمال" رغم إتقان "أنيل كابور" للدور بطريقة ملفتة، إلا أنه كان يحتاج إلى إبراز أصله الكامن داخل نفس مقدم البرنامج.  

 تأتي النهاية، مثل باقي الفيلم، محملة بمعنى عميق، فالمال الذي لم يسع إليه "جمال" أتاه ليغير مصيره ويبدأ به حياة جديدة مع الثراء المادي والعاطفي، هو "المال" نفسه الذي قتل أخيه "سليم" في مشهد مؤثر حين اختبأ داخل كومة كبيرة من الأوراق النقدية كي يقتل زعيم العصابة "جافيد" وكأنه يقتل ذاته التي توحد معها من قبل. 
وأخيرا بإحساس مرهف ووسط استعراض مبهج يغادرنا الفيلم بأماكنه وشخوصه وأحداثه تاركا على شفاهنا ابتسامة شجن وإحساس غامض بالفرح والحزن معا.
......................................................
(المقال منشور من قبل في جريدة القبس الكويتية)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أطفال الجنة .. حذاء صغير وقلوب كبيرة

أربع نساء يبحثن عن الحب

11 طريقة تعرف بها أن شريك حياتك يحبك