أم مهزومة .. وقسّ وبغيّ في مواجهة فساد الشرطة
فيلم Changeling
رائعة جديدة مفعمة بالتفاصيل الإنسانية المؤثرة تحمل توقيع المخرج والنجم كلينت
إيستوود. تدور أحداثه حول "كريستين كولنز" أو أنجلينا جولي وهي موظفة في
السنترال تعيش مع ابنها الوحيد الذي لم يتجاوز سنواته التسع، بعد أن هجرها زوجها
وهي مازالت حاملاً تهرباً من المسئولية. وفي مشاهد استهلالية قليلة ومكثفة، يكشف
الفيلم عن العلاقة العميقة بين الأم وطفلها، فهي تهتم بنموه الجسماني وتحرص على
قياس طوله، كما تهتم بنموه النفسي والفكري، فتعلمه ألا يخوض صراعاً إلا إذا فُرض
عليه، ويبدو ابنها "والتر" من الوهلة الأولى شجاعا ولديه إحساس عال
بالمسئولية اكتسبه من أمه.
كلينت استوود يمنح جيناته التمثيلية لأبطال الفيلم
وتجد الأم تعاطفا كبيرا من القس أو جون
مالكوفيتش، المناهض للظلم والفساد خصوصا في جهاز الشرطة، وتضغط بمساعدته لجعل
قضيتها قضية رأي عام من هنا يدبر الضابط المسئول عن القضية مكيدة لها لتجد نفسها
تحت الملاحظة في مستشفى الأمراض العقلية بحجة أنها تعاني "بارانويا
اضطهاد" و"هلاوس فكرية"، وقبل أن تفقد الأمل في الخروج من المستشفى
ينجح القس في إنقاذها، لتعاود البحث عن طفلها. وفي خط مواز يتم القبض على طفل
متشرد عبر الحدود الأميركية بطريقة غير شرعية، وأثناء التحقيق معه يعترف على سفاح
شاب خطف أكثر من عشرين طفلا من بينهم "والتر"، وقتل معظمهم بطريقة وحشية.
وبالفعل يقبض على الشاب ويحكم عليه بالإعدام شنقا، لكنه قبل الموت يصر على أن يترك
الأم حائرة دون أن يؤكد لها إن كان ابنها أحد من قتلهم أم أنه هرب مع قلة كانت
محظوظة بالنجاة. ويترك الفيلم المشاهد على حافة التوتر دون أن تُحسم القضية تماما،
ليبقى الأمل في ابتسامة خجول على شفاه الأم، وملامح يسكنها شجن أبدي بأنها تشعر
بوجود ابنها في مكان ما وأنها ستعثر عليه ذات يوم.
ولا شك أن فيلما ينتمي إلى كلينت
إيستوود، هو عمل يتجاوز المألوف ويقفز فوق المعتاد.. يقهر نمطية الفكرة ـ وإن
تكررت كثيرا ـ ويجعلنا كمشاهدين نلهث وراء أحداث توهمنا بالحل السريع في اللحظة
التي تتشابك فيها وتتعقد لتخلق ظلالا أخرى من الصراعات الإنسانية التي لا تنتهي،
ونفاجأ مع نهاية الفيلم وكأننا فوق قمة جبل شاهق من الأحداث المتوازية والمترابطة
في آن دون أن نمتلك سهولة العودة إلى مكاننا السابق.
ينطلق إيستوود من فلسفة إنسانية ومعرفة
عميقة بخريطة التكوين الإنساني وتعقيداته، والتي تساعده على توظيف كل ممثل في
مكانه الصحيح، وانزياح روحه عليهم، فيبدون وكأنهم يحملون جيناته الفنية، فننسى في
لحظات كثيرة أننا أمام أنجلينا جولي التي اعتدناها في أفلام الحركة. كما نجح مايكل
ستراكزينسكي في كتابة أحداثه ونحت شخصياته بسلاسة وعمق.
ويحاورنا بلغة بسيطة دون
إسفاف، عميقة دون تعقيد أو ازدحام أو صخب، ليترك للصورة والإحساس حرية الحركة
والتوغل في نفس المُشاهد، أما الإضاءة فجاءت خافتة في معظم الوقت، تضفي نوعا من
التضامن مع الأحداث وأداء الشخصيات وطبيعة الأماكن. وكانت الكاميرا حميمة ودقيقة
في تركيزها على الأشخاص وتعبيراتهم أكثر من الفضاء الخارجي، فمنحت المُشاهد فرصة
الاقتراب من الملامح والأحاسيس ومعاناتهم الصامتة ومشاعرهم الجريحة وصراعاتهم
الدفينة.
وبالنسبة للأداء التمثيلي فقد تفوقت
أنجلينا جولي على نفسها، من خلال حوار هادئ دون انفعالات زائدة أو مبالغ فيها، أو
مسرحية في الأداء، لتتقن دور الأم التي تكافح وحدها من أجل ضمان حياة مستقرة لها
ولطفلها واستعادته بأي ثمن واستحقت عن جدارة الترشح لجائزة أوسكار أفضل ممثلة دور
أول وإن خسرتها أمام كيت وينسلت. وكان جون مالكوفيتش، أو القس، مبهرا في أدائه
الهادئ والمتحمس في آن، يعكس صوته وحركاته الجسدية القليلة ثقة ووقارا، فتمكن من
تقديم الشخصية الدينية باتزان، دون مزايدة أو متاجرة بأفكار الدين، واستطاع أن
ينقل للمشاهد دورا فعالا وإيجابيا مكثفا، فيبدو وكأنه يعمل في الخفاء ليفاجئنا
بنتيجة جهوده.
إدانة صارخة
إن فيلم Changeling أو
التغيير يتجاوز فكرة البحث عن طفل مفقود، ويغزل
خيوطا متشابكة من القضايا الإنسانية عميقة الجدل، فلا ينتقل المخرج من موقف إلى
آخر إلا وترك في ذهن المُشاهد سؤالا محيرا وقضية تستحق التوقف عندها، دون تفاصيل
مملة أو استعراضية مبالغ فيها، فهو يصور لنا منذ البداية إدانة صارخة للفساد والسلوك
التسلطي الجامح لدى بعض ضباط الشرطة في مواقف مختلفة تعكس الوجه الخفي للسادية Sadism الكامنة في البناء النفسي لضابط الشرطة، إضافة إلى العدوانية والرغبة
في التسلط وفرض السيطرة وقهر الآخرين، الناتج عن عدم الشعور بأهمية الذات وضعف
الثقة بالنفس. ويركز الفيلم على النماذج السلبية لضباط الشرطة وممارساتهم كل أشكال
الفساد مثل: تدبير المكائد للتخلص ممن يخالفهم أو يتسبب في إحراجهم أو تشويه
صورتهم أمام الرأي العام، والبغاء، والتواطؤ مع النماذج السلبية في المجتمع ومنهم الأطباء
لخلق شبكة فساد متكاملة تبتلع كل من يحاول الاعتراض. ويرصد الفيلم هذه العلاقة
المشوهة بمهارة في مستشفى الأمراض العقلية، حين يتوقف بنا عند قصص إنسانية مؤثرة
لنزيلات في المستشفى هن في الحقيقة ضحايا للشرطة، منهن شخصية البغي "كارول
ديكستر" أو إيمي ريان والتي حاولت أن تقاوم عنف أحد زبائنها فاكتشفت أنه ضابط
شرطة عقابها بإيداعها في المستشفى. وتربطها علاقة ودود مع أنجلينا جولي فتدافع
عنها في موقف يضطرها لصفع الطبيب المتآمر بعد أن سبها بأنها عاهرة، فيعاقبها
بجلسات الكهرباء، ليكون هذا الموقف وغيره، حافزا للبطلة على الدفاع عن النزيلات
جميعا.
ولا يتركنا الفيلم دون أن
يمنحنا قدرا من الشعور بالأمان النفسي والاجتماعي، فيفتح نافذة على نماذج بشرية مازالت
تنبض بالخير ليصنع نوعا من التوازن الأخلاقي. ويأتي التغيير الإيجابي من جانب الأم
التي لم تتوقف عن حزن عقيم إنما حاولت إنقاذ نزيلات المستشفى، والقس الذي يمثل
السلطة الدينية والروحية الشفافة والإيجابية، غير المنفصلة عن قضايا المجتمع،
والمتجاوزة لشرنقة الأفكار المتشددة، فنرى القس ينجح في استصدار أمر قضائي
بالإفراج عن كل من دخلت المستشفى بأمر الشرطة، وكأنها صفحة قوية في وجه منظومة
فاسدة، أما البغي التي لم يختزلها الفيلم في الخطيئة أو صورتها النمطية السلبية،
فجعلها طرف مشارك في مقاومة الفساد والخلاص من وضع مهين لها ولزميلاتها، ليعكس ذلك
أن الإنسان كائن عصي على التصنيف الساذج.
ولا يقتصر جمال الفيلم على التشويق
والأداء الممتاز للممثلين فحسب، والسيطرة على المشاهد حتى اللحظة الأخيرة، وإنما أجمل
ما فيه هو تجدد الصراع الإنساني باستمرار وعدم حسمه بطريقة باردة عاطفيا أو بوضع
النهاية التقليدية السعيدة باستعادة الطفل وهو ما يريح المتفرج ويشبع رغبته
المتوهجة طوال مشاهدته للفيلم ويكافئ كفاح الأم في العثور عليه.. لكن كلينت
إيستوود يتركنا ـ كعادته ـ في مفترق طرق، أمام أبواب كثيرة مشرعة على احتمالات
إنسانية لامتناهية. ويظل الأمل طريقا ممتدا يشبه الشارع الذي مشت فيه "الأم "
في نهاية الفيلم مع إشارة إلى أنها لم تتوقف أبداً عن البحث عن طفلها المفقود.
____________________________________________
المقال منشور من قبل في جريدة القبس الكويتية
____________________________________________
المقال منشور من قبل في جريدة القبس الكويتية
تعليقات
إرسال تعليق