بروفة رقص أخيرة
"كانا
يتعانقان في التدريبات كبجعتين أو كحية وشجرة في أسطورة الخلق. يستقيم جسده أكثر
كلما تسلقت قامته الباسقة، لتبدو كشراع مفرود للريح ويصبح هو كصاري السفينة يدل
عليها مهما جنّت الأمواج. نشأت بينهما لغة خاصة وفي المرات القليلة التي تحادثا
فيها خارج أوقات العمل استعانا بالحركة لإيصال المقصود من الكلام. كان بإمكانه أن
يخفيها في حضنه تماما ويطيب له أن يلمها بين ذراعيه وساقيه حتى تختفي ككنغر صغير
في جراب أمه.
شيء من سطوة المعلم وآخر من
هيمنة الذكورة استشرى بينهما. تنصاع له دون نقاش بشيء من ولاء التلميذة وآخر من
ضعف الأنوثة. تستطيب الانسحاق فتثير فيه غريزة التملك. وفي مراحل متقدمة صارت
قسوته ملح العلاقة. أشهر قليلة مضت ليعرفا أنهما قطعتان من طينة واحدة، إحداهما
جفت وقست والأخرى مازالت في طور اللين.
لم يعد
للآخرين وجود.
إنها تستثير
الحضور حماسا. يصله التصفيق، يمرر رأسه في عتمة الكواليس، ينظر إليها تباعد ساقيها
برشاقة مِنقلة ليصبح ما بينهما مئة وثمانين درجة ويشكل جسدها زاوية قائمة وذراعاها
يتقاطعان كلحنين منسجمين.
يدخل حالة انعدام الوزن.
يتحولان رائدين في فضاء المسرح، تمر بينهما كواكب الإضاءة الملونة. يتحركان
كشعاعيَ ليزر لا يمكن أن يخترقهما شيء دون أن يكون في مروره احتراقه المؤكد. هكذا
حدث في أحيانا كثيرة حين حاول أفراد الفرقة تخليصهما من بعضهما البعض، ليبقى راكان
محتفظا بهيبة المعلم وتؤطر نوف راقصة كالأخريات. لكن الشوك كان يحف بالطريق
إليهما. أحدٌ لم يعرف ما الذي يحدث حقا، يستيقظان من الحالة فيحررهما منها النسيان
كأنها غيبوبة مغلقة على أسرارها وتبقى الكدمات شاهدا أخرس على جسد نوف.
تترنح على
الخشبة تكاد تسقط، يحملها بقلق مجنون، يُدهش الحضور لصدق التعبير ويحين دخول
المجاميع الراقصة لينقذ الموقف. يتسلل بها إلى الكواليس المظلمة، يمسح رأسها بحنو
ويضمه إلى صدره لافظا: "برافو كنتِ رائعة". تبتسم نوف ضاغطة على ألم ما.
سائل كثيف يلصق توبها بجسدها. "يبدو أننا تمادينا كثيرا هذه المرة" يخرج
صوتها وشوشة وجع.."
......................................................................
مقطع من نص بعنوان: بروفة رقص أخيرة
من المجموعة القصصية التي تحمل العنوان نفسه، للمبدعة السورية: نسرين طرابلسي، صادرة عن دار المدى، 2008
......................................................................
مقطع من نص بعنوان: بروفة رقص أخيرة
من المجموعة القصصية التي تحمل العنوان نفسه، للمبدعة السورية: نسرين طرابلسي، صادرة عن دار المدى، 2008
تعليقات
إرسال تعليق