فقدان العمل ومصيدة المرض النفسي

هل نبحث عن العمل، أم نفتش عن الحياة بكل جوانبها، عن صورة الذات والقيمة النفسية؟ هل «الوظيفة» بالنسبة لنا مجرد مصدر للدخل أم هويّة؟ وكيف يتركنا فقدان العمل صيداً سهلاً لاضطرابات الشخصية ما لم نحتِّم بتكوين نفسي قوي يعصمنا من الانهيار؟

«أحمد» رجل أربعيني، حاصل على ماجستير من كلية التجارة، متزوج من مهندسة ديكور ولديه طفل في عامه الثالث. ظَلّ يعمل محاسباً في شركة استيراد قرابة 10 سنوات. بعدها تخلَّت عنه الشركة ولم يجد عملاً آخر. استمر بلا وظيفة حوالي 5 سنوات، سافر خلالها مرافقاً لزوجته التي وجدت عملاً جيداً بإحدى الدول الأوروبية. وهناك أيضاً لم يستطعْ بسهولة إيجاد عمل، فوقع فريسة للاكتئاب.. انعزل عن العالم وأسرته تماماً. لم تنجح مساندة زوجته له في خروجه من وحدته. 

يقول أحمد: «اضطررت لبيع كل ما ورثته عن عائلتي لأصرف على أسرتي، ولم يكنْ ذلك كافياً، كنت أشعر كأن في جسدي ناراً، خصوصاً إذا كان الأمر مُتعلّقاً بمصروفات ابني، أقدمت على الانتحار مرتين لولا زوجتي التي أنقذتني في آخر وقت. خضعت للعلاج النفسي حوالي 6 أشهر، اقتنعت من خلاله أن الفرصة الوحيدة المتبقية أمامي هي أن أتماسك نفسياً حتى أستطيع إيجاد فرصة عمل جديدة وأن أبقى بجوار ابني وزوجتي. بالفعل بعد سنوات نجحت في إيجاد عمل ليس في تخصّصي ومجهد جداً إلّا أن إجهاده لا يساوي لحظة من وجودي في البيت بلا عمل وزوجتي هي التي كانت تعولني فأشعر كأني ميت. نعم ميت يمشي في جسد حي. العمل رَدّ لي روحي مرة أخرى».

مثل حالة «أحمد» هناك حالات كثيرة تعاني آثاراً نفسية نتيجة لعدم الحصول على وظيفة. من هذه التأثيرات السيكولوجية ما ورد في دراسة أميركية حديثة، بعنوان «التغيرات الشخصية المرتبطة بالبطالة»، والتي أجراها الباحثون CHRISTOPHER J. BOYCE, ALEX M. WOOD, MICHAEL DALY, AND CONSTANTINE SEDIKIDES ، وكانت عينة البحث (6,308) أفراد تتراوح أعمارهم بين (17 و 61) سنة، يختلفون فيما بينهم في مدّة سنوات البطالة. وتشير الدراسة- التي نشرتها رابطة علم النفس الأميركية في فبراير/شباط الماضي- إلى أن شخصية الإنسان تختلف عبر الأدوار الاجتماعية التي يقوم بها، تحديداً العمل كأحد أهم هذه الأدوار. وافتقاد «الوظيفة» قد يُحدث خللاً نفسياً خصوصاً إذا استمر لفترة طويلة. فالبطالة تخفض التواصل الاجتماعي وتقيّد فرصة المشاركة في الأنشطة والمهام الاجتماعية، ومن المُرجَّح أن تؤثر «فترة البحث عن عمل» على طرق التفكير، والشعور، والتصرفات، ما يُعجِّل بتغيير ملحوظ في الشخصية.

ومن ملامح هذا التغيير النفسي، افتقاد السعادة والتي تمتد غالباً لفترة طويلة، ويمكن مقارنتها مع أثر الإصابة بالإعاقة أو فقدان الشريك، فالبطالة قد تقلب حياة الأشخاص بشكل غير متوقع. ويكفي أنها تصنع فجوة بين الإنسان والوصول إلى أهدافه، وتلغي قيمة الإنجاز، إضافة إلى أنها تُعجل بالتغييرات في الوعي أيضاً.

ويؤكد الباحثون على أن الوجود في عمل مدفوع الأجر، يرتبط بمتغيرات أخرى مثل زيادة المسؤولية الاجتماعية، والتي سوف تتأثر بحدوث البطالة، ومن ثَمّ ينخفض مستوى الاجتهاد. إن الحياة بلا عمل ترتبط بارتفاع مستويات الإجهاد النفسي والاكتئاب، بالإضافة إلى ذلك، حيث إن بيئة العمل توفر مصدراً أساسياً للدعم الاجتماعي، الذي قد يتبدّد مع فقدانه، مصحوباً بتدني احترام الفرد لذاته، ما يُولِّد لديه المشاعر والسلوكيات وطرق الإدراك السلبية.

ويوضح الباحثون أن أهمية العمل تنبع من كونه مثل باقي أحداث الحياة الحاسمة، يؤثر في التنشئة والقدرة على التفاعل الاجتماعي، تبادل الأفكار، ويعلّم تقديم التنازلات، وكلها أنشطة يومية وجوانب نموذجية ومؤثرة داخل بيئة العمل، ومن ثَمّ فإن افتقادها، يعرّض الشخص إلى تهديدات نفسية، خصوصاً مع الأفراد ذوي التوجه الاجتماعي، وتقلل من سمات نفسية مثل، الوفاق النفسي، الانبساطية، والانفتاح على الآخر، بينما تزيد من الشعور بالوحدة وتدني احترام الذات والإحساس بالوصمة كونه «عاطلاً» وما يترتب عليها من تصرفات سلبية. ومن الجدير بالذكر أن الأشخاص الذين حافظوا على مستوى جيد من استقرار الشخصية خلال فترة البحث عن عمل، هم الذين نجحوا في إيجاد عمل جديد بعد فترة.

وتنوه الدراسة بأن درجة تغير الشخصية تختلف تبعاً إلى طول أو قصر المدة التي يقضيها الشخص عاطلاً عن عمل. على سبيل المثال، يكون الشخص في بادئ الأمر نشطاً في البحث عن فرصة عمل جديدة، وإذا فشل بعد سنوات، ربما يعاني انعدام الحافز أو قِلّة مواصلة السعي إلى وظيفة. هذا الإرهاق في دوافع البحث عن عمل، قد يكون هو شرارة التغيير في شخصيته. ومن ثَمّ، فإن الأثر النفسي يعتمد على عدد السنوات فبعد سنوات يعتاد الفرد على الوضع الجديد وربما يكون قادراً على التأقلم مع البطالة، ومن ثَمّ على تخفيف حدة التغيرات المصاحبة.

وفي النهاية، كشفت الدراسة أن التأثير النفسي للبطالة يختلف لدى كل من المرأة والرجل، بسبب تباين التفكير والشعور والسلوك بينهما. فالرجل يتبنّى منهج التركيز على المشكلة وغالباً لا يبحث عن الدعم الاجتماعي، في حين أن المرأة تركّز أكثر على أعراض المشكلة، ومن ثَمّ يعنيها كثيراً الدعم الاجتماعي، وربما هذا ما يجعل الرجل مناسباً أكثر للوظائف العملية بينما المرأة تلائمها المهن ذات التوجه الاجتماعي. في حين تتسبب البطالة في التهديد النفسي لكل منهما على السواء حسب طول المدة التي يقضيانها في البحث عن العمل، والتي تؤدي أحياناً إلى الطلاق، وإن كانت دراسات أخرى تشير إلى أن الشعور بالتهديد ربما يكون أقلّ لدى المرأة، إذ يعتبر كثير من النساء، الحياة بلا عمل فرصة للتفرغ لتربية الأطفال.

من هنا فإن البطالة تظلّ اختباراً قاسياً لعلاقة الإنسان بنفسه وشريك حياه والمجتمع. تجربة صعبة يمكن أن يتجاوزها الشخص بسلام إلى أن يجد فرصة عمل جديدة أو يقع في فخ عدم التوافق النفسي والمجتمعي إلى غير رجعة. ورغم أنها مشكلة لها أبعاد مجتمعية وتحتاج إلى حلول جذرية على مستوى الدول وليس الأفراد فقط، إلا أن الخلاص الفردي يظلّ ممكناً إذا اكتسب الإنسان مناعة نفسية قوية تحول بينه وبين أن يصبح مريضاً نفسياً أو مجرماً أو هارباً من الواقع أو مدمناً، خصوصاً إذا كان شاباً (أو فتاة) في مقتبل العمر ومازالت الحياة تحمل له فرصاً كثيرة رغم التعثرات، أو كان مسؤولاً عن أسرة وأطفال ينتظرون منه الأمان النفسي قبل المادي والحماية الاجتماعية والنفسية قبل توفير الغذاء. البقاء على قيد الصحة النفسية هو ما يضمن لنا القدرة على البدء من جديد في أي مرحلة من حياتنا، وتجاوز أي صعوبات وربما التنازل قليلاً بقبول وظائف لا توازي تعليمنا وقدراتنا أحياناً حتى يتوافر لنا الأفضل.
______________________________________________
هذا المقال منشور من قبل في مجلة الدوحة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أطفال الجنة .. حذاء صغير وقلوب كبيرة

أربع نساء يبحثن عن الحب

11 طريقة تعرف بها أن شريك حياتك يحبك