إنت شوارعي!
كنت، ومازلت، أشعر بالخجل والضيق من مفهوم «طفل شارع»، ذلك التعريف اللاإنساني الذي ينسبهم منذ البداية إلى مساحة جغرافية عابرة «الشارع» تجعل منهم أشخاصًا عابرين لا نتوقف أمام مشاكلهم واحتياجاتهم كثيرًا.
وبرغم بعض المحاولات لصك مصطلح آخر مثل «أطفال في خطر» أو «الأطفال بلا مأوى» أو «الأطفال المعرضون للانحراف» وغيرها من المفاهيم، إلا أن مصطلح «أطفال الشوارع» ظل هو السائد والدارج حتى الآن كأنه قدرهم.
مصطلح قاسٍ لإنسان فقد أبجديات الحياة العادية رغمًا عنه، فقد أسرته (رمزيًّا أو واقعيًّا) وأصبح الشارع هويته الجديدة والدائمة، يستمد منه معاييره وقيمه وسلوكياته وأخلاقياته ونسق تفكيره، ومع مرور الوقت تعلَّم كيف ينفصل تدريجيًّا عن المجتمع الأصلي ليصبح الشارع مجتمعًا جديدًا له.
حياة سارية المفعول في حين تعطلت كل حيواته الأخرى. ليس هذا فقط، وإنما يتحول الشارع إلى اسم لصيق باسمه الأصلي، وعنوان ليس للسكن والمبيت فحسب إنما للشخصية أيضًا، بكل ما تحمل كلمة «شارع» من معنى سلبي ومنفِّر في أذهان عامة الناس، فنحن حين نريد أن ننعت شخصًا ما بكونه وقحًا أو غير مؤدب، نقول إنه «إنت شوارعي» أو «تربية شارع».. فماذا ننتظر من إنسان يتخذ من الشارع وطنًا؟!
كانت البداية عام 2002؛ حين رشحني صديق عزيز لوظيفة مدير فني لإحدى المؤسسات بالقاهرة الكبرى، عملت بها لمدة لم تتجاوز العام. لم يكن المكان ولا أسلوب التعامل مع الأطفال بالمستوى المُرضي لي، لأنني غير مقتنعة بالإهانة أيًّا كان شكلها أسلوبًا للعقاب، كأن يُحكم على طفل بتنظيف دورات المياه عقابًا له على سلوك خاطئ، علاوة على أنه يأتي معهم بنتيجة عكسية، فمن جرَّب حياة الحرية المطلقة في الشارع لا يفيد معه كثيرًا القسوة الاعتيادية.
انتهت تجربتي في هذه المؤسسة بعد خلاف كبير مع المسئولين فيها حول الأفكار المتعلقة بإعادة تأهيل الأطفال والتعامل معهم.
بعد ذلك، انتقلت للعمل في المجلس القومي للطفولة والأمومة، وكنت ضمن فريق العمل المسئول عن إعداد الاستراتيجية القومية لتأهيل الأطفال بلا مأوى التي أعلنتها مصر عام 2003. شعرت بالتفاؤل لأن الاستراتيجية تتضمن أبعادًا جيدة وشاملة تمنح كل مؤسسات وهيئات المجتمع دورًا جوهريًّا في مساندة هذه الفئة الضعيفة ومساعدتها على حياة آدمية، لكن يبدو أن التنظير الجيد لا يؤدي بالضرورة إلى أداء بالجودة ذاتها، فلا أعتقد أن شيئًا من هذه الاستراتيجية تم تنفيذه على أرض الواقع بنفس الصورة المثالية التي وضع بها، يكفي أننا لا نملك إحصائية محددة وواضحة بعدد أطفال الشوارع، أو الأمراض التي يعانون منها، كما أن الدراسات والبحوث التي أجريت عنهم لا يتم الاستفادة منها كما يجب.
كيف يتعايش هؤلاء الأطفال مع الإساءة الجنسية والنفسية والبدنية التي يتعرضون لها؟! وهل تحول الجنس بينهم إلى استراتيجية بقاء؟! وما هي الحيل الدفاعية التي يستخدمونها ليجعلوا من الشارع مجتمعًا بديلاً لدرجة أن بعضهم يرفض العودة إلى المنزل حتى وإن توفرت له أسباب الرجوع؟! وإذا كان البعض يتعامل معهم مثلما يتعامل مع الجراثيم والفيروسات المُعدية، هل تحوَّرت هذه الفيروسات لتصبح خارج السيطرة وتنفث عدوانها بشراسة تمكنها من البقاء رغم أنف الجميع ومهما كانت الخسائر؟!.
أسئلة كانت بمثابة الدافع الأول لكتابي عنهم والذي يعد أول دراسة مصرية وعربية تركز على الأطفال المقيمين بصفة دائمة في الشارع، وليس أطفال الشوارع المقيمين في المؤسسات أو الذين يتلقون رعاية أو اهتمامًا من أي جانب، وصدر عام 2012 عن الدار المصرية اللبنانية، القاهرة.
______________________________
تم نشر هذا المقال من قبل في موقع الممر
______________________________
تم نشر هذا المقال من قبل في موقع الممر