الإشاعات .. حرب الأشباح
طرحتُ سؤالاً على صفحتي في الفيسبوك: هل عانى أحدكم يوماً من «إشاعة» ما؟ وماذا كان تأثيرها النفسي عليكم؟ وكيف كان ردّ فعلكم؟! وصلت تعليقات كثيرة، أنتقي منها هنا اثنين فقط:
أجاب «ع»: الإشاعات خربت بيتي! سافرت فترة خارج البلاد لدراسة الدكتوراه، وتركت زوجتي وولدين. من أطلق الإشاعة هي أختي الصغرى التي كانت على خلاف حادّ مع زوجتي، واتهمتها بأنها على علاقة بشخص آخر كان خطيبها سابقاً. للأسف! بعد فترة بدأ الشك يلعب برأسي خصوصاً أن زوجتي رفضت الدفاع عن نفسها بحجّة أنني يجب أن أثق بها بعد مدّة زواج ثماني سنوات! وحين أصررت على مناقشتها واتّهامها، أصرّت هي على الطلاق وقد كان. بعدها أثبتت لي أنها إشاعة بعد أن سجَّلت اعترافاً لأختي في ساعة غضب، ولكنها رفضت أن أردَّها إلى عصمتي مرة ثانية!
وقالت «س»: واجهت كغيري من الناس مشكلات كثيرة في العمل، وكانت تمرّ بسلام. حديثاً أطلق زميلي إشاعة بأنني أقمت معه علاقة جنسية، وفَبْرَكَ مجموعة صور لنا معاً في أوضاع حميمة، بعد أن رفضت محاولاته المستميتة للتقرُّب مني وأن أقبل دعوته للذهاب إلى «الشاليه». نتيجة لذلك تَمَّ فصلي من عملي بعد إصراره على ذلك عند المدير. لكنني حمدت الله أنني لم أخسر بيتي وعائلتي لأن زوجي كان على علم ببعض مراوداته لي.
إن الإشاعات صورة عنيفة وغير مرئيّة من العداء الإنساني، تعتمد على وقائع مشوَّهة أو مُفَبْرَكة، أو عبارات كاذبة أو محرَّفة تُتَناقَل بين الناس بسرعة شديدة دون التأكّد من صحّتها، بهدف النيل من شخص أو مؤسَّسة أو مجتمع ما. وفي النهاية يجد الشخص المستهدَف نفسه أمام حرب أشباح!
لا تقتصر الإشاعات على بلد بعينه، وإن اختلفت طبيعتها ومضمونها، من مجتمع لآخر، فالدول المنتجة والمتقدِّمة حَرَّرت نفسها من سطوة الآخر فيما يتعلَّق بالأمور الشخصية، لذلك فالإشاعات المرتبطة بالأشخاص وحياتهم الخاصة قليلة، وإن وجدت فإن تأثيرها غير مدمِّر للفرد أو معوِّق له في النجاح واعتلاء مناصب مهمّة، فقد يعرف عن شخص ما علاقاته الغرامية أو الجنسية المتعدِّدة أو أي سلوك آخر لا يرتبط بقدرته على العمل وبأدائه الوظيفي المتميِّز، ويظل ذلك في حَيِّز الحياة الشخصية طالما أنه لا يمسّ حياته العملية والاجتماعية.
أما مجتمعاتنا العربية فإنها تعيش غالباً على القيل والقال، على القتل المعنوي للآخر، وتفرض سلطة مجتمعية قاهرة على الفرد، ولا تفرِّق بين الحياة العامة والحياة الخاصة، ويدرك الوعي الجمعي لمعظم الناس أن الإشاعة قد تهدم مستقبل إنسان أو تدمِّر حياته أو تعيقه عن التواصل في عمله أو وظيفته، لذا يستخدم البعض الإشاعات كسلاح فعّال ضدّ شخص أو مجموعة غير مرغوب فيها، وغالباً ما تتناول الحياة الشخصية للفرد وبالتحديد الجانب الأخلاقي والجنسي لأن من الصعب إثباتهما، وحتى لو دافع الشخص عن نفسه وأثبت براءته، تكون الإشاعة حققت غرضها، وشوَّهت سمعته بالفعل، فانتشارها لا يقارَن بانتشار خبر البراءة منها.
الإشاعة إحدى صور العدوان غير المباشر على الآخرين، سواء أتمَثَّل ذلك في اختلاق الإشاعة أم في النزوع النفسي نحو تصديقها أو المشاركة في نشرها. وغالباً ما يكون هذا العدوان لأسباب غير موضوعية، كأن يكون بين صاحب الإشاعة والمستهدف بها خلاف شخصي أو فكري أو مهني، أو تنافس في مجال ما، فيطلق الإشاعات أو يستأجر من يساعده في ترويجها في محاولة منه للانتقام أو إضعاف خصمه. وفي ظل حالة الإحباط العام التي يعيشها معظم الناس تصبح التربة خصبة لنموّ الإشاعات والميل إلى تصديقها ونشرها، وتنفيس تلك الطاقة العدوانية الموجَّهة بقسوة وبشكل عشوائي نحو الآخر كنوع من تحقيق الذات المضطرب وحماية النفس من الفراغ المفزع ومقاومة الشعور بعدم القيمة.
ثمة رغبة مرضيّة في جذب الانتباه والاهتمام، والظهور في صورة العليم ببواطن الأمور، وبعث الثقة في النفس، أو إثارة شفقة الآخرين، أو الميل إلى تحقيق سَبْقٍ ما في مجال معين، أو المَنّ على الناس بالمعروف كأن يسدي شخص خدمة معينة إلى زميل أو جار أو محتاج، ويسارع بنشر ذلك بشيء من المبالغة وتجميل الذات.. كل هذه دوافع شعورية أو لاشعورية تحرِّك رغبة البعض في نشر الإشاعات.
إن الأشخاص القلقون والذين يعانون من التوتُّر واضطراب الشخصية ينشرون الإشاعة بدرجة عالية من الحماس أكثر من المستقرّين نفسياً واجتماعياً، وكأن الإشاعة حاجة اجتماعية ونفسية لدى البعض، إما لتحقيق الحاجات المتوقَّعة منها أو لخفض القلق النفسي لديهم.
يحدث أحياناً أن يروّج شخص ما شائعات عن نفسه بهدف الشهرة أو «الفرقعة الإعلامية» أو رغبة في وجوده في دائرة الضوء ليجني مكاسب معينة، وللأسف يجد هذا الشخص الكثيرين الذين يساعدونه في خطته، بل يستكملون الناقص فيها حتى يحقِّق هدفه تحت مبدأ «نفيد ونستفيد»!
تمثِّل الإشاعات أزمة وعي فكري ونضج قيمي وأخلاقي، وإن كنّا لا نتوقَّع أن تنتهي أو يتمّ القضاء عليها نهائياً لأنها جزء من التفكير الإنساني المشوَّه، واحتياج قهري لدي البعض للسيطرة على الواقع المحبط، ولن يتمّ التخفيف منها إلا بتوافر جوانب عدّة:
1) رفع الوعي المجتمعي للتعامل مع هذه الظاهرة المؤذية بطريقة ناضجة من خلال التكثيف الإعلامي وبرامج التوعية وتصحيح الأفكار المغلوطة لدى الناس والقدرة على فرز المعلومات وعدم تصديق كل ما يقال، والاستناد في ذلك إلى المرجعيات الأخلاقية والدينية التي تحثنا على التحقق من صحة الخبر وعدم المشاركة في نشره دون مصدر موثوق به، بل الأحرى بهم التكذيب والابتعاد عن الموضوعات الحساسة والشائكة والتي تمسّ سمعة الآخرين، حتى وإن كانت صحيحة، فالأصل في العلاقات الإنسانية نشر الشيء الإيجابي وتقويته ولا السلبي.
2) وضع وتفعيل القوانين الرادعة التي تعاقب كل من يَثبُت عليه نشر أو مساهمة في ترويج شائعة أو الإساءة بأية وسيلة لحياة الأفراد الخاصة، خصوصاً تلك التي تؤثِّر سلباً في الأسرة من تلويث سمعة العائلات وتدمير مستقبل أطفالها. من ثَمَّ سيشجِّع ذلك الأفراد المتضررين على الدفاع عن أنفسهم والتمسُّك بحقوقهم، بدلاً من خوفهم من الفضيحة وشعورهم بالعار نتيجة تصرُّفات بعض المنحرفين والمضطربين نفسياً الذين يرتعون في الحياة مثل القَتَلة بلا عقاب!
3) أن نساهم جميعاً في مساندة ودعم الأشخاص المتضرِّرين من الإشاعات وتقويتهم نفسياً واجتماعياً وإقناعهم أن الحياة تحمل الكثير من الاختبارات والابتلاءات علينا أن نتدرب على تجاوزها بقوة لا بضعف وخوف.. وعلينا أن نحتمل نتائج معادلتنا في الحياة، وندرِّب شركاءنا وأولادنا على أن يواجهوا معنا بعض الاختبارات الصعبة التي نخرج منها أكثرة قوة وتحدِّياً وأكثر قدرة على النجاح.
___________________________________
المقال منشور من قبل في مجلة الدوحة بعنوان "حرب الأشباح".
أجاب «ع»: الإشاعات خربت بيتي! سافرت فترة خارج البلاد لدراسة الدكتوراه، وتركت زوجتي وولدين. من أطلق الإشاعة هي أختي الصغرى التي كانت على خلاف حادّ مع زوجتي، واتهمتها بأنها على علاقة بشخص آخر كان خطيبها سابقاً. للأسف! بعد فترة بدأ الشك يلعب برأسي خصوصاً أن زوجتي رفضت الدفاع عن نفسها بحجّة أنني يجب أن أثق بها بعد مدّة زواج ثماني سنوات! وحين أصررت على مناقشتها واتّهامها، أصرّت هي على الطلاق وقد كان. بعدها أثبتت لي أنها إشاعة بعد أن سجَّلت اعترافاً لأختي في ساعة غضب، ولكنها رفضت أن أردَّها إلى عصمتي مرة ثانية!
وقالت «س»: واجهت كغيري من الناس مشكلات كثيرة في العمل، وكانت تمرّ بسلام. حديثاً أطلق زميلي إشاعة بأنني أقمت معه علاقة جنسية، وفَبْرَكَ مجموعة صور لنا معاً في أوضاع حميمة، بعد أن رفضت محاولاته المستميتة للتقرُّب مني وأن أقبل دعوته للذهاب إلى «الشاليه». نتيجة لذلك تَمَّ فصلي من عملي بعد إصراره على ذلك عند المدير. لكنني حمدت الله أنني لم أخسر بيتي وعائلتي لأن زوجي كان على علم ببعض مراوداته لي.
إن الإشاعات صورة عنيفة وغير مرئيّة من العداء الإنساني، تعتمد على وقائع مشوَّهة أو مُفَبْرَكة، أو عبارات كاذبة أو محرَّفة تُتَناقَل بين الناس بسرعة شديدة دون التأكّد من صحّتها، بهدف النيل من شخص أو مؤسَّسة أو مجتمع ما. وفي النهاية يجد الشخص المستهدَف نفسه أمام حرب أشباح!
لا تقتصر الإشاعات على بلد بعينه، وإن اختلفت طبيعتها ومضمونها، من مجتمع لآخر، فالدول المنتجة والمتقدِّمة حَرَّرت نفسها من سطوة الآخر فيما يتعلَّق بالأمور الشخصية، لذلك فالإشاعات المرتبطة بالأشخاص وحياتهم الخاصة قليلة، وإن وجدت فإن تأثيرها غير مدمِّر للفرد أو معوِّق له في النجاح واعتلاء مناصب مهمّة، فقد يعرف عن شخص ما علاقاته الغرامية أو الجنسية المتعدِّدة أو أي سلوك آخر لا يرتبط بقدرته على العمل وبأدائه الوظيفي المتميِّز، ويظل ذلك في حَيِّز الحياة الشخصية طالما أنه لا يمسّ حياته العملية والاجتماعية.
أما مجتمعاتنا العربية فإنها تعيش غالباً على القيل والقال، على القتل المعنوي للآخر، وتفرض سلطة مجتمعية قاهرة على الفرد، ولا تفرِّق بين الحياة العامة والحياة الخاصة، ويدرك الوعي الجمعي لمعظم الناس أن الإشاعة قد تهدم مستقبل إنسان أو تدمِّر حياته أو تعيقه عن التواصل في عمله أو وظيفته، لذا يستخدم البعض الإشاعات كسلاح فعّال ضدّ شخص أو مجموعة غير مرغوب فيها، وغالباً ما تتناول الحياة الشخصية للفرد وبالتحديد الجانب الأخلاقي والجنسي لأن من الصعب إثباتهما، وحتى لو دافع الشخص عن نفسه وأثبت براءته، تكون الإشاعة حققت غرضها، وشوَّهت سمعته بالفعل، فانتشارها لا يقارَن بانتشار خبر البراءة منها.
الإشاعة إحدى صور العدوان غير المباشر على الآخرين، سواء أتمَثَّل ذلك في اختلاق الإشاعة أم في النزوع النفسي نحو تصديقها أو المشاركة في نشرها. وغالباً ما يكون هذا العدوان لأسباب غير موضوعية، كأن يكون بين صاحب الإشاعة والمستهدف بها خلاف شخصي أو فكري أو مهني، أو تنافس في مجال ما، فيطلق الإشاعات أو يستأجر من يساعده في ترويجها في محاولة منه للانتقام أو إضعاف خصمه. وفي ظل حالة الإحباط العام التي يعيشها معظم الناس تصبح التربة خصبة لنموّ الإشاعات والميل إلى تصديقها ونشرها، وتنفيس تلك الطاقة العدوانية الموجَّهة بقسوة وبشكل عشوائي نحو الآخر كنوع من تحقيق الذات المضطرب وحماية النفس من الفراغ المفزع ومقاومة الشعور بعدم القيمة.
ثمة رغبة مرضيّة في جذب الانتباه والاهتمام، والظهور في صورة العليم ببواطن الأمور، وبعث الثقة في النفس، أو إثارة شفقة الآخرين، أو الميل إلى تحقيق سَبْقٍ ما في مجال معين، أو المَنّ على الناس بالمعروف كأن يسدي شخص خدمة معينة إلى زميل أو جار أو محتاج، ويسارع بنشر ذلك بشيء من المبالغة وتجميل الذات.. كل هذه دوافع شعورية أو لاشعورية تحرِّك رغبة البعض في نشر الإشاعات.
إن الأشخاص القلقون والذين يعانون من التوتُّر واضطراب الشخصية ينشرون الإشاعة بدرجة عالية من الحماس أكثر من المستقرّين نفسياً واجتماعياً، وكأن الإشاعة حاجة اجتماعية ونفسية لدى البعض، إما لتحقيق الحاجات المتوقَّعة منها أو لخفض القلق النفسي لديهم.
يحدث أحياناً أن يروّج شخص ما شائعات عن نفسه بهدف الشهرة أو «الفرقعة الإعلامية» أو رغبة في وجوده في دائرة الضوء ليجني مكاسب معينة، وللأسف يجد هذا الشخص الكثيرين الذين يساعدونه في خطته، بل يستكملون الناقص فيها حتى يحقِّق هدفه تحت مبدأ «نفيد ونستفيد»!
تمثِّل الإشاعات أزمة وعي فكري ونضج قيمي وأخلاقي، وإن كنّا لا نتوقَّع أن تنتهي أو يتمّ القضاء عليها نهائياً لأنها جزء من التفكير الإنساني المشوَّه، واحتياج قهري لدي البعض للسيطرة على الواقع المحبط، ولن يتمّ التخفيف منها إلا بتوافر جوانب عدّة:
1) رفع الوعي المجتمعي للتعامل مع هذه الظاهرة المؤذية بطريقة ناضجة من خلال التكثيف الإعلامي وبرامج التوعية وتصحيح الأفكار المغلوطة لدى الناس والقدرة على فرز المعلومات وعدم تصديق كل ما يقال، والاستناد في ذلك إلى المرجعيات الأخلاقية والدينية التي تحثنا على التحقق من صحة الخبر وعدم المشاركة في نشره دون مصدر موثوق به، بل الأحرى بهم التكذيب والابتعاد عن الموضوعات الحساسة والشائكة والتي تمسّ سمعة الآخرين، حتى وإن كانت صحيحة، فالأصل في العلاقات الإنسانية نشر الشيء الإيجابي وتقويته ولا السلبي.
2) وضع وتفعيل القوانين الرادعة التي تعاقب كل من يَثبُت عليه نشر أو مساهمة في ترويج شائعة أو الإساءة بأية وسيلة لحياة الأفراد الخاصة، خصوصاً تلك التي تؤثِّر سلباً في الأسرة من تلويث سمعة العائلات وتدمير مستقبل أطفالها. من ثَمَّ سيشجِّع ذلك الأفراد المتضررين على الدفاع عن أنفسهم والتمسُّك بحقوقهم، بدلاً من خوفهم من الفضيحة وشعورهم بالعار نتيجة تصرُّفات بعض المنحرفين والمضطربين نفسياً الذين يرتعون في الحياة مثل القَتَلة بلا عقاب!
3) أن نساهم جميعاً في مساندة ودعم الأشخاص المتضرِّرين من الإشاعات وتقويتهم نفسياً واجتماعياً وإقناعهم أن الحياة تحمل الكثير من الاختبارات والابتلاءات علينا أن نتدرب على تجاوزها بقوة لا بضعف وخوف.. وعلينا أن نحتمل نتائج معادلتنا في الحياة، وندرِّب شركاءنا وأولادنا على أن يواجهوا معنا بعض الاختبارات الصعبة التي نخرج منها أكثرة قوة وتحدِّياً وأكثر قدرة على النجاح.
___________________________________
المقال منشور من قبل في مجلة الدوحة بعنوان "حرب الأشباح".
تعليقات
إرسال تعليق